توطئة
في ذكرى الميلاد الجديد لهذه الأبيات
.
.
أمي اللتي حملها ما ينحسب بشهور
الحب في قلبها والحرب خيط مضفور
..
تصبر على الشمس تبرد والنجوم تدفى
ولو تسابق زمنها تسبقه ويحفى
..
تكتب في كار الأمومة م الكتب ألفين
طفلة تحمي الغزالة وتطعم العصفور
..
وتزنب الدهر لو يغلط بنظرة عين
وبنظرة أو طبطبة ترضى عليه فيدور
من "قالوا لي بتحب مصر" - تميم البرغوثي
.
.
وأيضًا في ذكرى تذكرة القطار التي جاءتني هدية في المنام.. تبشرني بالرحلة
.
.
فيما يلي مقتطفات من رحلة أراها نورًا على الطريق.. رحلة رضوى ومريد
_____________________
أحدق من النافذة فيتراءى لي مريد جميلا يبتسم ابتسامة مشجعة وعيناه خائفتان
.
.
كنت أعي اللامنطق في عنادي ولكني كنت بحاجة إلى الانتظار، بحاجة ملحة إلى الفعل اليومي في ظل وجود رسالة حتى لو كانت هذه الرسالة وجودا غائبا هو المنتظر
.
.
وبدا لي أنني أنا ومريد اللذين عشنا طويلا في ظل جغرافيا مفرقة، بافتراقنا هذه المرة قد نضيع ولد وبنية عاشقان، نعم، ولكنهما يسيران كل وحده في طرقات نصف مختلفة من دنيا واسعة لا يميزها الأمان بشكل خاص. كان قد مضى على صداقتنا سبع سنوات وعلى زواجنا ثلاث. وفي القاهرة بدا لي بعد أن فكرنا في أمر قبولي للمنحة الدراسية وسفري وقبلناه، بدا لي أنني امرأة خرقاء تترك أمان البيت، ووطنا هو ألفة الأماكن والصحاب ورجلا تحب، وتذهب هكذا
.
.
ووصلتني من مصر رسائل. رسالتان من مريد جاءتا معا وهذا الصندوق الصغير صار طيبا لا أنسى عطاءه حين أفتحه فلا أجد بداخله شيئا
.
.
وتأتيني كلمات مريد كقبلة على الجبين تباركني، فأخرج وأرتبك وأسأل نفسي في عتب هل كانت تنقص مريد الغربة؟
.
.
يقول في رسالته: "حين سافرت سافر الوطن مرة أخرى." وهو لا يعرف أن هذه الرسائل كانت في الغربة لي هي الوطن، أمامها يتراجع الشعور بأنني انفلت ضائعة في فضاء خارجي لم أعرف له بعد قانونا. ستزيد المغلفات حاملات رسائلنا، ليس هذا محزنا إلى هذا الحد، أليست حكايتنا هي التي تطول وتبدأ فصلا جديدا؟
.
.
لمحت كومة من الأوراق عبر الطاقة الزجاجية الصغيرة هل يمكن أن تكون أوراقا رسمية من إدارة الجامعة أو اعلانات تجارية؟ أشفقت على قلبي الذي رحت أسمع دقاته وأنا أدير القرص لفتح الصندوق. هذه رسائل، رسائل بالطائرة! حملت بين يدي خمسة مظاريف مستطيلة تحمل اسمي وعنواني مكتوبين بخط مريد المرتب الواضح. وسرت ببطء في اتجاه السلم قاصدة غرفتي. كانت الرسائل بين يدي هكذا في مظاريفها المغلقة هدية غمرتني كالوردة التي حملها ابني تميم بعد ذلك بسنوات وهو بعد لم يتم العامين وقال: "أنا باحبك يا ماما.. باحبك وعشان كده جبت لك وردة!" خمس رسائل تصل لامرأة من الرجل الذي تحب، تصلها معا وفي الغربة. أيها أفتح أولا؟ فتحتها جميعا معا. غمرتني الدهشة، كانت قصائد! غمرتني الدهشة كما لو كنت أجهل حقيقة أن مريد البرغوثي شاعر أو كأنني لم أتلق منه في سنوات سابقة عشرات القصائد الجديدة بالبريد وبدأت أقرأ
.
.
كما يدخل الماء جوف الصخور
بقريتنا في فصول الشتاء
يشق له ألف درب بباطن أعلى الجبال
ويخلد فيها كثعلبة ترقب
ويصغي لوقع خطى الزارعين
وشق المحاريث للأرض عاما فعاما
ويخرج نهرا ونبعا ونافورة تسكب
ويهتف كالطفل
ها قد أتيت، تعالوا اشربوا
فيشرب منه اليمام وأهل القرى
وقوافل ضلت، وسنجابة تلعب
وتنغمر الأرض بالبرتقال
وتحمر فيها الورود، وتنضج كل الثمار الوليده
كذلك حبك يدخلني
ويشرق وجه القصيدة
.
.
بعد يومين وصلتني ثلاثة مظاريف أخرى تحمل باقي أجزاء القصيدة التي تتجاوز أبياتها الخمسمئة بيت. ولو أن القصيدة لشاعر آخر تحمل اسم امرأة أخرى لحملتها وانطلقت من غرفتي كالسهم البشير إلى الصحاب أطلعهم عليها. ولكن القصيدة كانت لي، مرآة مسحورة مد لي مريد بها يده عبر المسافة وقال هي لك! فهل هذه حقا أنا؟ كانت رضوى القصيدة كزرقة النار صافية ومطلقة، وقفت أمامها موزعة بين الزهو والحياء ولا زلت
حملت القصيدة في قلبي ورحت أواصل الفعل، في قاعات الدرس الموزع بين قسمي الأدب الإنجليزي والدراسات الأفرو-أمريكية وفي المكتبة، ومركز الطلبة، والبيت الذي أسكن فيه
.
.
وكم مرة يا مريد افترقنا، وكم مرة سوف نلتقي؟ وتلك الغصة في الحلق ساعة يمضي واحدنا إلى داخل المنطقة الجمركية ليجلس متجاهلا ذلك الثقل المتزايد بأسفل المعدة في انتظار الاعلان عن موعد الطائرة. ولماذا في كل مرة نفترق أو نلتقي فيها تبقى صورتك هكذا حاضرة التفاصيل، مشيتك، لفتة رأسك، قصة شعرك، نظرة عينيك الصغيرتين في وراء زجاج نظارتك ورموشك، حتى شكل حذائك ولون جوربك؟
.
.
______________________
من كتاب: "الرحلة: أيام طالبة مصرية في أميركا" – رضوى عاشور – 1987
.
.
إلى رزان.. من أعارتني الكتاب في ليلة العيد من مكتبتها الملونة
إلى هاجر.. إلى التماع عينها عندما قرأت عليها هذه الكلمات على مقعد خشبي كبير ساعة مغربية في معرض الكتاب
محبتي
.
.
وأيضًا في ذكرى تذكرة القطار التي جاءتني هدية في المنام.. تبشرني بالرحلة
.
.
فيما يلي مقتطفات من رحلة أراها نورًا على الطريق.. رحلة رضوى ومريد
_____________________
أحدق من النافذة فيتراءى لي مريد جميلا يبتسم ابتسامة مشجعة وعيناه خائفتان
.
.
كنت أعي اللامنطق في عنادي ولكني كنت بحاجة إلى الانتظار، بحاجة ملحة إلى الفعل اليومي في ظل وجود رسالة حتى لو كانت هذه الرسالة وجودا غائبا هو المنتظر
.
.
وبدا لي أنني أنا ومريد اللذين عشنا طويلا في ظل جغرافيا مفرقة، بافتراقنا هذه المرة قد نضيع ولد وبنية عاشقان، نعم، ولكنهما يسيران كل وحده في طرقات نصف مختلفة من دنيا واسعة لا يميزها الأمان بشكل خاص. كان قد مضى على صداقتنا سبع سنوات وعلى زواجنا ثلاث. وفي القاهرة بدا لي بعد أن فكرنا في أمر قبولي للمنحة الدراسية وسفري وقبلناه، بدا لي أنني امرأة خرقاء تترك أمان البيت، ووطنا هو ألفة الأماكن والصحاب ورجلا تحب، وتذهب هكذا
.
.
ووصلتني من مصر رسائل. رسالتان من مريد جاءتا معا وهذا الصندوق الصغير صار طيبا لا أنسى عطاءه حين أفتحه فلا أجد بداخله شيئا
.
.
وتأتيني كلمات مريد كقبلة على الجبين تباركني، فأخرج وأرتبك وأسأل نفسي في عتب هل كانت تنقص مريد الغربة؟
.
.
يقول في رسالته: "حين سافرت سافر الوطن مرة أخرى." وهو لا يعرف أن هذه الرسائل كانت في الغربة لي هي الوطن، أمامها يتراجع الشعور بأنني انفلت ضائعة في فضاء خارجي لم أعرف له بعد قانونا. ستزيد المغلفات حاملات رسائلنا، ليس هذا محزنا إلى هذا الحد، أليست حكايتنا هي التي تطول وتبدأ فصلا جديدا؟
.
.
لمحت كومة من الأوراق عبر الطاقة الزجاجية الصغيرة هل يمكن أن تكون أوراقا رسمية من إدارة الجامعة أو اعلانات تجارية؟ أشفقت على قلبي الذي رحت أسمع دقاته وأنا أدير القرص لفتح الصندوق. هذه رسائل، رسائل بالطائرة! حملت بين يدي خمسة مظاريف مستطيلة تحمل اسمي وعنواني مكتوبين بخط مريد المرتب الواضح. وسرت ببطء في اتجاه السلم قاصدة غرفتي. كانت الرسائل بين يدي هكذا في مظاريفها المغلقة هدية غمرتني كالوردة التي حملها ابني تميم بعد ذلك بسنوات وهو بعد لم يتم العامين وقال: "أنا باحبك يا ماما.. باحبك وعشان كده جبت لك وردة!" خمس رسائل تصل لامرأة من الرجل الذي تحب، تصلها معا وفي الغربة. أيها أفتح أولا؟ فتحتها جميعا معا. غمرتني الدهشة، كانت قصائد! غمرتني الدهشة كما لو كنت أجهل حقيقة أن مريد البرغوثي شاعر أو كأنني لم أتلق منه في سنوات سابقة عشرات القصائد الجديدة بالبريد وبدأت أقرأ
.
.
كما يدخل الماء جوف الصخور
بقريتنا في فصول الشتاء
يشق له ألف درب بباطن أعلى الجبال
ويخلد فيها كثعلبة ترقب
ويصغي لوقع خطى الزارعين
وشق المحاريث للأرض عاما فعاما
ويخرج نهرا ونبعا ونافورة تسكب
ويهتف كالطفل
ها قد أتيت، تعالوا اشربوا
فيشرب منه اليمام وأهل القرى
وقوافل ضلت، وسنجابة تلعب
وتنغمر الأرض بالبرتقال
وتحمر فيها الورود، وتنضج كل الثمار الوليده
كذلك حبك يدخلني
ويشرق وجه القصيدة
.
.
بعد يومين وصلتني ثلاثة مظاريف أخرى تحمل باقي أجزاء القصيدة التي تتجاوز أبياتها الخمسمئة بيت. ولو أن القصيدة لشاعر آخر تحمل اسم امرأة أخرى لحملتها وانطلقت من غرفتي كالسهم البشير إلى الصحاب أطلعهم عليها. ولكن القصيدة كانت لي، مرآة مسحورة مد لي مريد بها يده عبر المسافة وقال هي لك! فهل هذه حقا أنا؟ كانت رضوى القصيدة كزرقة النار صافية ومطلقة، وقفت أمامها موزعة بين الزهو والحياء ولا زلت
حملت القصيدة في قلبي ورحت أواصل الفعل، في قاعات الدرس الموزع بين قسمي الأدب الإنجليزي والدراسات الأفرو-أمريكية وفي المكتبة، ومركز الطلبة، والبيت الذي أسكن فيه
.
.
وكم مرة يا مريد افترقنا، وكم مرة سوف نلتقي؟ وتلك الغصة في الحلق ساعة يمضي واحدنا إلى داخل المنطقة الجمركية ليجلس متجاهلا ذلك الثقل المتزايد بأسفل المعدة في انتظار الاعلان عن موعد الطائرة. ولماذا في كل مرة نفترق أو نلتقي فيها تبقى صورتك هكذا حاضرة التفاصيل، مشيتك، لفتة رأسك، قصة شعرك، نظرة عينيك الصغيرتين في وراء زجاج نظارتك ورموشك، حتى شكل حذائك ولون جوربك؟
.
.
______________________
من كتاب: "الرحلة: أيام طالبة مصرية في أميركا" – رضوى عاشور – 1987
.
.
إلى رزان.. من أعارتني الكتاب في ليلة العيد من مكتبتها الملونة
إلى هاجر.. إلى التماع عينها عندما قرأت عليها هذه الكلمات على مقعد خشبي كبير ساعة مغربية في معرض الكتاب
محبتي