توطئة
تدور أحداث المشهد التالي في يوم ديسمبري مشمس ما بين ميدان "رمسيس" الواقع بوسط القاهرة، وميدان "الحنين" الكائن بوسط القلب
_____________
عندما حطت قدمي على أرض الميدان - مترجلة من ذلك الميكروباص العجيب الذي تقاضى خمسين قرشًا عن الرحلة من العباسية إلى رمسيس - كان "علي" يطرح سؤاله المعهود - بتلك النبرة التي تمزج بين الوجل واليقين: عارفة؟؟
وسط نبضات موسيقى عمر خيرت، وتنويعات علي التي تبدأ بـ "عارفة"، و"مش عارف ليه"، و"حاسس"، بدا الميدان مختلفًا عما اعتدت عليه إلى حد كبير. انحسرت كل أصوات الباعة واتخذت ركنًا منزويًا من المشهد. توقفت أيضًا حركة السيارات لجزء من الثانية ثم عادت للحركة البطيئة بشكل يشبه المؤثرات السينمائية حتى أنني شعرت أنني جزء من فيلم تسجيلي
الشيء الوحيد الذي بقى على حاله - تركوازيًا كما هو دائمًا في اللون والإحساس - كان المحطة.. محطة مصر. تعلق نظري بها أطول من اللازم، واستعدت في ثوان كل مرات السفر، والوداع، والوصول في حياتي
بينما كنت أعبر الطريق نحو الفجالة، كان "علي" قد وصل إلى جملتي المفضلة: "حاسس إن يمامة بتشرب بكفوفي".. ذلك الجزء الذي أشعر كلما سمعته بزغزغة في باطن كف يدي. في الأفق غير البعيد، لاحت لوحة إعلانات كبيرة تستند إلى سطح أحد العمائر القديمة الصفراء صاحبة الشبابيك الطويلة ذات اللون البني المحمر. مرت أجزاء أخرى من ثانية خارجة على سيطرة الساعة التقليدية، أدركت خلالها أن الوجه غير واضح الملامح في اللوحة لـ "علي" وأن اللوحة بأكملها إعلان عن ألبومه الجديد "حوا وآدم". كان يرتدي قميصًا شتويًا رصاصيًا ويستند في استرخاء معدٍ إلى خلفية من درجات الرصاصي يقطعها قلب أحمر صغير يقف بجانب العنوان. أطلت النظر.. غير مصدقة. سألت نفسي للحظة من أين يأتي الصوت.. من السماعات في أذني أم من تلك اللوحة التي تبدو غريبة تمامًا عن المكان؟ لم أر له إعلانًا من قبل في أي مكان.. لم تعتد عيني أن تقابل في تلك الإعلانات الضخمة التي تحتل سماء القاهرة سوى بوسترات الأفلام الرديئة و"نجوم" روتانا الذين يلوثون ميدان التحرير دون أي مبرر تاريخي أو جغرافي
انتبهت من بين تساؤلاتي إلى أن الفجالة أصبحت أمامي تمامًا، وأن الثانية الخارجة على أمر الزمن قد انتهت.. ولكن يبدو أن هذا اليوم العجيب يأبى أن ينتهي. بينما كان أحد الباعة يمارس عملية ابتزاز لوالد أحد الأطفال بإغراء الطفل باللعب بشكل بهلواني - ذلك التصرف الأخرق الذي يستفز الأم في - نفخ ذلك البائع نفخة كبيرة من علبة الفقاقيع الصابونية الملونة، ونتج ذلك الفعل غير التربوي عن اندفاع سحابة كبيرة من الفقاعات الملونة الصغيرة التي لم أجد بدًا من المشي بداخلها في نفس الثانية التي كان "علي" يختم فيها أغنيته. لم أملك سوى أن أبتسم في الشارع - كما اعتدت أن أفعل كثيرًا في الفترة الأخيرة - ورددت في سري: عارفة.. والله عارفة
___________________________
حاشية: بمجرد أن دخلت الفجالة، وجدت دار غريب - وجهتي - مغلقة، ولكن الأمر لم يعنيني في شيء.. تمامًا